نمط إنتاج التفكير البورڤيبي و رؤياه لقضية فلسطين

with Aucun commentaire

 أنشر اليوم هذا النص الذي سأتليه بنصوص أخرى ما أعتبره بداية  لكتاب سأوضح فيه قدر الإمكان سرديتي الشخصية لما أسميه نمط إنتاج التفكير السياسي البورڤيبي معتبرا أن المراحل التاريخية التي  مرّت بها حركة التحرير التونسيّة منذ مؤتمر قصر هلال  و إنشاء الديوان السياسي كهيكل مسيّر للحزب الحر الدستوري عوضا عن اللجنة التنفيذية   (التي واصلت إشرافها على نفس الحزب الذي يرجع تأسيسه  لسنة 1920) كانت نتيجة تحوّل نوعي  جعل من مسار ثورة التحرير التونسيّة نمطا فريدا بين مسارات الكفاح التحريري لشعوب إفريقيا و آسيا و خاصة العربيّة منها.لست مؤرّخا ولا صحفيا مختصّا في التحليل السياسي الإحترافي و إشتغلت بالتدريس لمدّة 48 سنة بإستثناء سنوات خمس ما بين فترتي المعلم  والأستاذ  قضيت  منها سنة و نيف  كمحرّر صحفي   وقارئ  نشرات الأخبار بإذاعة تونس الناطقة بالفرنسيّة و أربع سنوات  كطالب بجامعة الصربون بباريس فترة ثورة 68. ولكني  بالموازاة  للتدريس بمستوياته المختلفة ( معلم ثم أستاذ ثانوي ملحق بوزارة الثقافة و أستاذ تعليم عالي،  متميز منذ 12 سنة )  مارست عن طريق الهواية الجادّة والملتزمة فن الكتابة الصحفيّة والفن  التشكيلي وأدمجت هوايتَيَّ  في خطّتي الوظيفية كمدرّس بالمعاهد العليا للفنون و بمعهد الصحافة    وعلوم الإخبارفي أواخر السبعينات.

ولا بد في هذه الكلمة البدئية أن أوضّح الخلفية المنهجية التي سأتبعها و إتبعتها من قبل، في تحرير ما سبق لي أن نشرت من كتب و دراسات معمقة باللغة الفرنسيّة. كما ضمنت أعلاه في الحديث عن هوايَتَيّ إني أعتبر الكتابة الصحفية فنّا يتطلّب تعاملا مع اللغة لا يقلّ ترميزا وتعبيرا عن الكتابة الأدبية سواء كانت نثرا أو شعرا. فتحرير الخبر ليس نقلا « موضوعيّا » للحدث  بل تأويلا ضروريا له يمرّ أوّلا بتغطية الواقع بالوسيط اللغوي أو التصويري ليتحوّل إلى خبر صياغته تمثل عمليّة صنع منتوج خصوصي يقع تبادله وبيعه وشراؤه أو توزيعه بالمجان  في سوق الأفكار. ومن هنا نفسّر استعماله كسلاح في حروب الإعلام العالميّة التي نعيش على وقعها اليوم. ومن هنا أيضا نفهم الأهميّة القصوى التي يجب أن يعطيها صائغ الخبر للفُوَيْرِقات بين معاني المفردات اللغوية وأشكال صياغتها بصفتها المادة الشفافة التي يصنع منها المنظار الذي من خلاله « نشاهد » الواقع حيث نكون  » مشاهدين » لا شهّاد أو شهداء. والمشاهد لا يكون شاهدا إلا إذا كان واعيا متمكنا من أنماط إنتاج السرديات الإعلامية المختلفة المتقابلة أوالمتحاربة على الساحة. وعلى هذا الأساس أقول إنّ سرديّتي في هذا النص تنتمي لنمط الإنتاج الإتصالي والتعبيري المُسمّى بالذاتية الموضوعية التي تجعل هذا النص تداخلا مقصودا بين الشهادة والسّيرة الذاتية، بعيدة كل البعد عن التحامل أو »الإنحياز الإيديولوجي » الذي يختلف عن « الإنتماء الإيديولوجي » المُعلِن عن نقطة و زاوية و وجهة نظره أو رؤياه. و الإنحياز يعمي الأبصار ويعتّم الرؤية ويمنع الحوار ويحوّله إلى حرب و صدام غير ذي جدوى ويمنع التبادل الحرّ و الشفاف الذي تكون غايته  الإنصات للقول المغاير  المنتج للإثراء المُتبادل وللتلاقي على أرض الواقع المشترك.

وإعتبارا لما نعيشه اليوم من أحداث عالمّيّة دلالاتها تاريخيّة بحق، محورها الأساسي يتمركز في القضية الفلسطينية  التي أُخرجت  من دائرة التعتيم الإيديولوجي الذي ما زال واقع فلسطين يشكو منه ويسمح باستغلاله الفج في سوق التملّك الإيديولوجي الضيّّق من طرف الأنظمة الحاكمة العربيّة والإسلاميّة والتنظيمات السياسيّة المعارضة والثورجية

أقول إن مواقف الزعيم الحبيب بورڤيبه من القضية الفلسطينية لا يمكن فهمها حقيقة دون إدراجها في نسق فكره السياسي العملي الذي يؤشرإليه عنوان الجريدة التي أسّسها بمعية الطاهر صفر »L’action tunisienne » « العمل التونسي » بعد تخليهما عن الكتابة  في جريدة « La voix du Tunisien » « صوت التونسي لصاحبها الشادلي خيرالله. ويرجع تاريخ إصدار العدد الأول لجريدة « L’action »  ليوم غرّة نوفمبر 1932 أي 18 شهرا  قبل الإنسلاخ عن الحزب الحر الدستوري و « لجنته التنفيذية » بالإكتفاء بمواصلة النضال في إطار نفس الحزب مع تغيير تسمية هيئته المسيرة من « اللجنة التنفيذية » إلى  » الديوان السياسي ».و  يمكن القول إن بهاته الطريقة تمكنت النخبة الشابة من الدستوريين من تغيير وجهة الحزب الحر الدستوري بتحويله إلى « الشق الدستوري الجديد » Le Néo Destour » دون الحاجة إلى تغيير الإسم . وهو ما جعل السلط الإستعمارية لم تنتبه للقطيعة الپرادڤماتية التي مثلها التوجه الجديد واعتباره خصاما داخليا وتشتيتا لصفوف منخرطيه قد تستغله السلط الإستعمارية لصالحها.

                      وتمثلت القطيعة الپرادڤماتية هذه في تغيير جذري لنمط إنتاج الفكر السياسي للحزب الحر الدستوري من الفكر التعبيري النظري الإستنكاري المعارض المتظلم إلى فكر عملي وما يحيل عليه نمط إنتاج هذا الفكر من إلتزام عضوي بالواقع المعيش بكل مكوّناته وعدم القفزعليه كما يفعل المفكرون المتافزيقيون الغربيون ما قبل ماركس  ونيتش و فرويد و هيدڤير. و أُوَضِّحُ هنا أنّ هذا التحوّل النوعي يؤشر له الفارق  بين عنواني صحيفتي « صوت التونسي » و »العمل التونسي »و بين « اللجنة التنفيذية » و »الديوان السيّاسي ». فمن جهة، يحيل »صوت » التونسي  على معنى الناطق بإسم فئة من البشر، كتابة أو مشافهة، على ما يحيل عليه هذا الموقف من شعبوية ضمنية لنخبة تنصّب نفسها معبّرة بالقلم و اللسان عن طموحات أفراد معزولين لا يمثلون أمّة أو شعب و يشارإلى مكوّنيهما بإختزال تنوّعهم في « وصف-مفهوم » « التونسي » ذي الخلفية الفكرية الجوهرياتية (essentialiste) المتافزيقية ومن جهة أخرى يحيل عنوان « العمل التونسي على تصوّرمغاير للفعل السياسي يقترب كثيرا من موقف لينين عندما كان لاجئا سياسيا في باريس و يجتمع برفاقه الروسيين في شالي حديقة Montsouris التي تطل عليها La Fondation  Deutsch de la Meurthe التابعة للحي العالمي الجامعي لمدينة باريس حيث سيسكن، بعد عشرين سنه ، الطالب الشاب الحبيب بورقيبه من قبل أن  يتعرّف على زوجته الأولى ماتيلد (مُفيده بعد إسلامها).

والفرق بين « Le Faire révolutionnaire » للماركسي لينين و »العمل التحريري التونسي » لبورڤيبه يتمثل في أن الأول، « الفعل الثوري » الماركسي الليليني، وقع طرحه في  إطارجدال تنظيري بين فرق اليسار الروسي في أوائل القرن العشرين ومرجعيته مقولة ماركس في كتابه « أطروحات حول فويرباخ »(1845) : «لقد قام الفلاسفة بتأويل العالم بطرق شتى ولكن الأهم  هو العمل على تغييره» والثاني طرحه بورڤيبه على نفسه إنطلاقا من فهم للعمل يجمع بين الإحالة في نفس الآن على معنى الفعل والممارسة النضالية الپرـڤماتية المتحرّرة من الطروحات الإيديولوجية المسبقة  وعلى معنى ذي صبغة أخلاقية دينية قرآنية تؤشر لها الآية :{ وقل إعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون }  ( التوبة 105) التي تتوج عنوان جريدة العمل الناطقة بالعربية. ومعنى العمل يحيل هنا على الفعل الصالح الذي يشهده المؤمنون حيث يكون التعويل على الذات شرطا قبليا للتوكل على الله. وفيما يخص الفرق بين التسميتين المختلفتين للهيئة المسيّره للحزب الحر الدستوري بشقيه القديم و الجديد فيتمثل في الصبغة الجمعياتية  للهيئة المسيرة لتنظيم ما بالنسبة للٌجنة التنفيذية بينما تحيل تسمية الديوان السياسي على تنظيم  داخلي لحزب سياسي ذي صبغة نضالية من أجل قضية ما  تكون شرعية مسؤليه متأتية من إنتخابهم تصعيدية على مستوى المؤتمر ثم اللجنة المركزية ثم الديوان السياسي مع مراعاة الإعتبارات الخصوصيةالمتصلة بأعلى هرم السلطة ( الرئيس )  ودوره في تعيين أعضاء الديوان السياسي والأمين العام ومدير الحزب. و من الملاحظ هنا أن تقسيم الأدوار بين الرئاسة والأمانة العامة وإدارة الحزب ستتغير أهميته حسب المهام المرتبطة بالفترة التاريخية التي يمر بها الحزب (فترة النضال التحريري وفترة النضال لبناء الدولة الجديدة وفترة ما بين الحزب الحاكم وحزب الحاكم التي شهدتها  تونس في الفترة الأخيرة من حكم بورڤيبه. كما تجدر الملاخظة أخيرا أن خطّتَي المدير و الأمين العام قد تتعدل حسب الظروف والأشخاص. فالإنشقاق اليوسفي لسنة 55 حول خطة الأمين العام (صالح بن يوسف) إلى تسمية شق اليوسفيين بالأمانة العامة كما أن مرور مسطفى الفلالي ثم الفرجاني بلحاج عمار بإدارة الحزب يختلف عن فترة محمد الصياح وعن فترة المنجي الكعلي و الهادي البكوش وعبد العزيز بن ضياء و محجوب بن علي و حامد القروي

و اعتمادا لهذا التأويل اللاإيديولوجي للفكر السياسي العملي لبورڤيبه أقرأ موقفه من قضية فلسطين بدءا بالقول بأن هذا الموقف لا يمكن إختزاله كما يتظلم عليه العروبيون والإسلاميون في القبول الإنهزامي بالأمر الواقع والإعتراف بإسرائيل من خلال القبول بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. و قبل خطاب أريحه سنة 65 كان بورڤيبه و أثناء تواجده بالقاهرة في الفترة التي وقع فيها تأسيس دولة إسرائيل صرح بأن الإطار الشرعي والحقيقي للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني يبدأ بالتعريف بإنشاء إسرائيل كظاهرة إستعمارإستطاني شبيهة بوضع بلدان شمال إفريقيا آنذاك. وأوضح أنه من الخطإ إضفاء صبغة دينية وقومية عروبية على القضية.وهو الخطأ الذي ما زال الكثيرون يرتكبونه إلى حد الساعة غير عابئين بالقفزه النوعية التي حققها السادس من أكتوبر 2023، قفزة جعلت من قضية فلسطين قضية الإنسانية جمعاء بإعتبارها تواصلا لا تاريخيا للإستعمار الإستطاني. وهو ما يفسرتحمس شباب العالم  لمناصرة الشعب الفلسطيني المقاوم . وهو تحمّس صِدْقه مُتأتّ من عدم  تكبيل نمط تفكيرهم  بالإنتماءات الإيديولوجية الضيقة العروبية التعصبية العرقية والإسلاموية الموهومة المسطحة للفكر.  وبعد الإفصاح عن موقفه المبدئي هذا  بسبعة عشرعام وقبل هزيمة 67 وإحتلال كل فلسطين توجه لسكان الضفة الذين كانوا تابعين للإدارة الأردنية بالخطاب التاريخي الذي ألقاه بأريحه. وملخص ما جاء في هذا الخطاب نُصْح بورڤيبه للفلسطينيين بأن يعوّلوا عن أنفسهم و أن يقبلوا بالتقسيم الأممي و يعْدِلوا عن المطالبة ب »الكل و إلا بلاش »وأن يبدئواببناء دولتهم ثم يمارسوا حرب عصابات بمساعدة الدول العربية المساندة لهم مستندا على نجاح التجربة التونسية التي مرت بالقبول بالإستقلال الداخلي ثم الإستقلال السياسي الذي تبعه تأسيس الجمهورية و مساندة الثورة الجزائرية (  تونس أول من اعترف بالحكومة المؤقتة الجزائرية في المهجر ومقرها تونس العاصمة، صائفة  58)  والجلاء العسكري( 15 أكتوبر 63 ) والجلاء الزراعي( 12 ماي 64 ). كما تجدر الإشارة إلى أن خطاب أريحه ( 3 مارس65)  و نُصح بورڤيبه للفلسطينيين بالتعويل عن أنفسهم مع قبولهم بالحل المنقوص الذي يمثله التقسيم و ممارسة حرب العصابات إنطلاقا من دولتهم ذات الشرعية الأممية و مساندة جيرانهم؛ مقدما لهم كمثال ناجح ثورتَيْ تونس و الجزائر، كان متزامنا مع تأسيس « العاصفة » الجناح االمسلّح لحركة فتح على يد ياسرعرفات ( غرة جانفي 65 )

و إثر الهزيمة السريعة للجيوش النظامية العربيه  أمام الجيش الإسرائيلي في جوان 67 تمكنت حرب العصابات التي قادتها العاصفة من إحراز أول إنتصار على الجيش الإسرائيلي في معركة الكرامة بالأردن (21 مارس 68)  بإيقاف زحفه شرقا بغية ضم نهر الأردن بضفّتيه لما تسميه إسرائيل بأراضي يهودا والسامرة ( الضفة الغربية ) وكان الإنتصار سريعا ولم تتجاوز المعركة 15 ساعة. و تزامن خطاب أريحه وإنشاء « العاصفة » وتأكيد نجاعة المقاومة المسلحة (والتي من الخطإ وصفها بالعسكرية) في تقويض سردية دولة إسرائيل كحصن منيع يشجع على هجرة المعمّرين والإنتهازيين من المتصهينين من يهود أوروپا الغربية واليهود العرب المُغرّر بهم من طرف يهود أوروپا الشرقية ويهود أميركا المؤسسين الفعليين لدولة إسرائيل، كما بات اليوم  واضحا للعيان بعد السادس من أكتوبر 2023، قد يفسّر تحمّس بورقيبيه لدى مناصرته للكفاح المسلح الفلسطيني ،المتمركزآنذاك في الأردن، بعدإقدام الملك حسين بن طلال في سبتمبر الأسود 70 على ارتكاب مجازرمروّعة  ضد الفلسطينيين لا تقل فضاعة عما تقوم به دولة إسرائيل. وكان موقف تونس الأكثر تعاطفا رسميا مع فصائل المقاومة المسلحة التي كان أغلبها من اليسار. و بعد أن تدخلت لجنة الجامعة العربية العربية التي ترأسها الباهي الأدغم بالقيام بوساطتها، ( مع تدخّل لعبد الناصرأيّاما معدودات قبل وفاته ) بين الملك حسين و ياسرعرفات للكف عن إذاء الفلسطينيين والإكتفاء  بتهجير المقاومة إلى لبنان، أقدم بورڤيبه على تجاوز الأعراف الدپلوماسية بالقول بأن الأردن لم توجد تاريخيا قبل تأسيسها من طرف تشرشل على أرض فلسطين فيما سمّي شرق الأردن بمعنى الضفة الشرقية. و من الملاحظ أن تسمية  Transjordanie وقع إقتضابها في كلمة Jordanie دون إعطاء مقابل لمعناها الأصلي لدى ترجمتها للعربية  و الإكتفاء بإسقاط تسمية نهرالأردن عليها. ومن المهم التذكير هنا بالظروف التي قام أثناءها الإرهاب اليهودي بترويع سكان القرى الفلسطينية بقصد تهجيرهم قبل وبعد إعلان دولة إسرائيل و أثناء حرب 48  التي خسرتها الجيوش العربية التي وضعتها الجامعة العربية  تحت إمرة الملك عبد الله المعين من طرف الأنڤليز ملكا على شرق الأردن، مع العلم أن قائد الجيش الأردني آنذاك جنرال أنڤليزي. و نظرا لعمالة الملك عبد الله المفضوحة لإسرائيل وقع إغتياله من طرف فلسطيني في باحة المسجد الأقصى؛ ونجا حفيده حسين ابن طلال الذي كان يرافقه بأعجوبة لأن الرصاصة التي أصابته لم تتمكن من إختراق صدره.

العلاقة الحميمية التي كانت تربط بورڤيبه بقضية فلسطين تؤكد صدق إحتضان تونس لمنظمة التحرير الفلسطينية  بعد خروجها من لبنان مع عدم التدخل المطلق في توجهاتها السياسية خلافا لأغلب الأنظمة العربية. غير أني أعتقد أن تمشي عرفات الذي أدى إلى إتفاق أوسلو ليس بريئا من تأويل مسقط للتمشي البورڤيبي على واقع الثورة الفلسطينية المختلف عن واقع الثورات التحريرية للمغرب العربي ضد الإستعمار الفرنسي. مختلف في الزمان و المكان وفي خصوصية ثقافة الشعوب المتأتية من تجاربها التاريخية  .وقد واكَبْت هاته الفترة عن كثبت إذ كنت بداية الثمانيات محرّرا لإفتتاحيات صحيفة L’action اليومية الناطقة باسم الحزب الإشتراكي الدستوري ثم مديرا لأسبوعيته مجلة Dialogue الناطقة بالفرنسية.و مما علق بذهني من صائفة 82  ما صرّح به عرفات عند خروجه من بيروت قاصدا تونس بأنه « يرى في الأفق ميلاد إنسان جديد » و يومها نشرت مقالا بعنوان « الفلسطينيون لم يغادروا فلسطين »وهو موقف أردته إنكارا واضحا للواقع، تجاوبا مع التفاؤل الطوبوي الذي عبّر عنه عرفات؛ وخصصت إفتتاحيتي بصحيفة « L’action » للحديث عن  البعد الرمزي لوصول الباخره القبرصية إلى ميناء بنزت صبيحة يوم 28 أوت 82  موصلة القيادات السياسية والعسكرية وعائلاتهم ( 1200) إلى هاته المدينة الرمز رابطة بين مدينتين مناضلتين تشهد كل منهما على تواصل أكيد بين ثورة تحرير تونس و ثورة تحرير فلسطين.

و لدى رجوعي من بنزرت ملتحقا بمقر الجريدة بدار الحزب بالقصبه شاركت في لقاء صحفي ضيق حدثنا أثناءه أبو إياد عن ظروف خروجهم من بيروت و عن موقف الڤذافي الذي نصح الفلسطينيين بأن يموتوا على آخرهم  بعد حصاردام ثمانين يوما قضوها في التنقل بين بنايات بيروت الغربية تفاديا لضربات جيش شارون و المليشيات المسيحية اليمينية المتحالفة مع إسرائيل المتمركزة في بيروت الشرقية. وعلق أبو إياد ( صلاح خلف) على موقف الڤذافي، مع طلب عدم النشر، أن بحوزة المقاومة الفلسطينية من المعلومات ما يؤشر عن عمالة القائد الليبي لإسرائيل. وفي أمسية نفس اليوم، كنت بشارع بورڤيبة الذي كان مكتضا بالشباب من التونسيين والتونسيات وهم يحيطون برجال المقاومة الذين عمروا الشارع وصُدمت شيئا ما لما سمعت شخصا قدّم نفسه بصفتة ضابط في الجنا ح المسلّح للمقاومة  يقول على سبيل المزاح أن جمال الشارع الرئيسي لقلب المدينة يجعله يفكر في فتح  محل بيع شوارما. صدمت لأن ما سمعته أفاقني من حالة التأثر التي انتابتني لما شاهدت، صبيحة نفس اليوم، نبيل أبو ردينه، الناطق الرسمي باسم المنظمه المقرّب من عرفات ينزل مدرج الباخرة محمولا على نقالة صحّية بعد أن قضّى أسبوعا كاملا في السفر بين بيروت  وبنزرت.

وكانت رؤيتي »المثالية لقضية فلسطين ما زالت متجذرة في فترة دراستي  بباريس سنوات 68 حيث كنت عضوا ناشطا إعلاميا في الحي الجامعي بدهليز دار المغرب في « لجنة فلسطين » باشراف محمود الهمشري أول ممثل لمنظمة التحرير بفرنسا والذي شاهدته مرّة واحدة وترك فيّ انطباع رجل متواضع جدّي ومتحفظ .و زاد تقديري للمناضلين الفلسطيينيين لما علمت باغتياله من طرف الموصاد سنة 73. وتصوّري المثالي للمناضلين الفلسطينيين زاد ترسخا  في نفسي شهر جانفي من نفس سنة 82 حيث كنت أدرّس بمعهد الفنون الجميلة والهندسة المعمارية بتونس و كان من بين طلبتي شاب فلسطيني كلامه قليل ويجلس في آخرصف في القاعة ولم يكن يشد الإنتباه إلى يوم تغيبه عن الدروس و علمت أنه استجاب لدعوة المنظمة للإلتحاق بجنوب لبنان حيث بدأ شارون حربه على المقاومة الفلسطينية . وبعد أسابيع قليلة وصلنا خبر إستشهاده بعد إستبساله في المعركة بصفة ملحوظة. و قام طلبة المعهد بتعليق صورة من الحجم الكبير بساحة المعهد، للشهيد مروان الحج عيسى. وأذكر في نفس سياق حرب جنوب لبنان مشاركة شاب من مدينتي أكوده، أخ المحامي صديقي عبد السلام لعريف، في هاته الحرب. وقد انظم إلى صفوف المقاومة دون أن يعلم عائلته إلى أن إلتقى به في جنوب لبنان مبعوث صحيفة La Presse محمد محفوظ و أخبر عائلته بتواجده بين المقاومين الفلسطينيين. و ما زلت إلى اليوم أتجاذب أطراف الحديث حول قضية فلسطين بمقهى الجمهورية بأكوده مع صديقي شاكرابن المناضل الدستوري البورڤيبي نور الدين لعريف

                                                                                                          يتبع…….

             

Répondre