حكمة المناضل نيلسون منديلا و تخريف الفيلسوف الانتهازي

with Aucun commentaire

لقد مثلت الحركة التحريرية التونسية نقلة نوعية في تاريخ الحركات التحريرية العربية بما اتصفت به من تجاوز لمفهوم الثورة بالمعنى الذي تحيل عليه في لغة الضاد حيث لا يمكننا التفرقة كما في لغة فولتير  بين كلمتي

révolution و révolte

اللتين نترجمهما بكلمة ثورة. والفرق شاسع بين دلالتي الأولى و الثانية. فبينما يتأسس معنى الأولى في حركة وجودية تأبى الركود والجمود يشير معنى الثانية إلى ما يحصل من رد فعل انتفاضي على واقع لم يعد في وسع فرد أو شعب أن يتحمله.

و ما يمكننا أن نستخلصه من هذا التذكير بالفارق النوعي بين الثورة

révolution و الثورة révolte

هو أن الثورة الانفجارية كثيرا ما تسبق الثورة الحركية والوجودية.     كما أن الثورة الانفجارية من حيث طبيعتها    إذا لم تحول   في الإبان   إلى ثورة حركية مبدعة و منتجة للتاريخ   غير معيدة له في عالم الأوهام    كثيرا ما تبقى مرتجة   موثقة بالواقع الجامد الذي انفجرت منه و عليه.

وفي هذه الأيام التاريخية بحق التي يعيشها الشعب التونسي نحن مدعوون إلى التمعن الرصين في الفكر الحداثي الخلاق الذي عاضد حركات التحرير المغاربية   والتونسية بصفة أخص   والتي أنتج واقعا إنسانيا ثريا حاملا لثقافة النضال المستمر غير المستكين لليأس والذي فيه من مقومات الفكر الحضاري ما يسمح لثوراته الانتفاضية من التحول السريع إلى ثورة حركية مبدعة واعية بحدودها  و مستمدة قوتها من هذا الوعي نفسه.

وهو فكر يعتمد أولا و قبل كل شيء  عدم القطع بين الأجيال و دون اعتبار ذلك شدا إلى الوراء بل تثبيتا للسير إلى الإمام.

فالتجاوز الضروري لما سبق لا يتمثل في نكرانه بل في موضعته و تفهم علاقته الأكيدة بالحاضر بغية  إنتاج واقع جديد متجذر غير منبت. و ذلك باجتناب السقوط في الثوروية الطوباوية الغير المبدعة  والتي من خلال طوقها للقطع مع الماضي قد تعيد إنتاجه من حيث لا تعي.

الناصر بن الشيخ

هذا ما قد كنت كتبته منذ الأيام الأولى من الثورة و اليوم و أنا استمع للفيلسوف الكبير يوسف الصديق يتحدث عن تصوره لتغيير جذري و مطلق يحذف كل ما سبق يريد من الشعب التونسي أن يساعده على انجازه بانتخابه عضوا بالمجلس التأسيسي فهمت و أن ركوب الثورة يفرض على من يريد القيام به التنكر لأبسط مناهج التفكير السليم والتوغل في متاهات الطوباوية السلبية التي أسس معمر القذافي عليها رفضه المطلق للفكر الديمقراطي الغربي و اعتماده للفكر الخرافي الذي انطلق منه  في وضع مقولات كتابه الأخضر و أوصل من خلاله ليبيا للحالة المأساوية التي نعيشها اليوم. وبالمقابل فاني أضيف إلى ما  كتبته حول ضرورة التجاوز شهادة المناضل الثوري الكبير نلسون منديلا والذي كان بورقيبة سلمه جواز سفر تونسي أيام نضاله الأولى. شهادة تتمثل في رسالة مفتوحة بعث بها الزعيم الإفريقي للثوار التونسيين و المصريين. و ما أتمناه هو أن يبتعد شبابنا ومن يحرضه على ذلك من أمثال الانتهازي يوسف الصديق عن اعتبار ما يقوله نلسون منديلا من باب تخريف عجوز طاعن في السن .

يقول نلسن منديلا :

إخوتي في تونس ومصر

« لا زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يوما مشمسا من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف عام. خرجت إلى الدنيا بعد أن    وريت عنها سبعا وعشرين حجة لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد

ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو:

كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا ؟

أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير

وهو سؤال قد تحدد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم.

إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي. أو على لغة أحد مفكريكمحسن الترابيفإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل

أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس يشير بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء، كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتكببت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة.

ذاك أمر خاطئ في نظري.

أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمينة وغياب التوازن. أنتم في غنى عن ذلك، أحبتي.

إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن

عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائيا ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.

أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم أن لا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في ميلاد حريته

إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.

أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد . لذلك شكلتلجنة الحقيقة والمصالحةالتي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر.

إنها سياسة مرة لكنها ناجعة

أرى أنكم بهذه الطريقةوأنتم أدرى في النهايةسترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجمون خوف وهلع الدكتاتوريات من طبيعة وحجم ما ينتظرها.

أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء

نلسون روهلالا ماندلا

هوانتونجوهانزبيرغ

عن جريدة الوطن الموريتانية


Répondre