في إنتظار المحاكمة في إنتظار الدرس الإفتتاحي بقلم : عبد الحليم المسعودي

with Aucun commentaire


عندما وُضع المفكر اللاهوتي الإيطالي جيوردانو برونو

Giordano Bruno

المتهم بالزندقة  في عام 1600 على  » مشوى » القصاص الذي نصبته محكمة التفتيش في ساحة الكنيسة , أغاض مجمع الأكليروس التي يشم رائحة لحمه المشوي بصمته الثقيل و شخوصه في اتجاه السماء , حتى أن البعض قال أنه في لحظة الاحتراق تلك كان برونو يرنو ببصره مكتشفا كوكبا جديدا و بعيدا و كان هذا الكوكب يهدهد روحه بالفتنة و الجمال و يؤكد له صحة أقواله في الطبيعة و الكون … كان جيردانو برونو يعيد التألق الأدائي لسقراط مدفوعا بتناول السم كانتحار فلسفي , لكن برونو أقل مكابرة من عقل أثيني سفسطائي و أكثر توغلا في دفع ضريبة العقل الإنسانوي المبشر بإقامة الإنسان في قلب الكون و تأسيسه لسلطان العقل  الذي مكنه من الشك في التصور البطليموسي القائل بمحدودية العالم و التأكد من أن الكون  لانهائي , وأن هذا الانفتاح اللانهائي للكون لا يمكن إثباته إلا بالتضحية في انتظار نهضة العلوم الفيزيائية الحديثة التي أكدت صحة مقولته … صمت جوردانو برونو و هو يتقلىّ على جمر المحرقة شاخصا بروحه إلى الفضاء الرّحب المرصع بالنجوم , و اغتاض المجمع الكهنوتي من هذا الصمت الأخرق لهذا الزنديق و تناسى البعض و هو يشاهد مأدبة الشواء أن الرجل قد قطع لسانه الذي جاهر بصحة نظرية كوبرنيك و بشر في أقواله بانتصار الإنسان على الطبيعة عن طريق العقل . إنتقل برونو في تلك اللحظة متجاوزا الآلام من العقل الغريزي إلى العقل البرهاني و من العقل البرهاني إلى العقل الفياض و من العقل الفياض إلى العقل الأول المتوحد في تدبيره … إكتوى الجسد اللحمي الفاني و طافت الروح في الملكوت تحت العرش .

(2)

لا شكّ أن الجدل الفكري الذي حدث مؤخرا من منطلق ما صرح به المفكر التونسي الأستاذ محمد الطالبي في حواره الإذاعي الذي ملء الدنيا و شغل الناس مع الأستاذ عبد الفتاح مورو حول الحقائق التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام , سيحدد من هنا فصاعدا و ضمن تاريخ الثقافة و التفكير في تونس الأدوار الجديدة التي سيتعهد بأدائها المثقف التونسي بعد الثورة . و سيكون ما حدث من جدل على الملإ بداية للمحنة و الامتحان الذي سيسطر رهانات دور المثقف التونسي في بناء لبنات مستقبل الثقافة في بلادنا … نقول هذا الكلام في سياق الغياب المطلق للمفكر و المثقف , بل في سياق التغييب المتعمد لصوت المثقف الذي عوّض بصوت الفقيه القانوني و صوت الفقيه السياسي و صوت الفقيه الديني , و صوت الفقيه المحاسب, وصوت الفقيه اللوجستيكي , و صوت الفقيه الخبير , و صوت الفقيه الفارماكوني المتطبب .

(3)

وفي رأينا أن أكبر دليل على غياب صوت المثقف هو غياب صوت المثقف على المثقف أي غياب المثقف نفسه , و هو ما نلمسه بشكل واضح في الصمت المطبق العام على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المفكر محمد الطالبي و غياب كل مبادرة للدفاع عنه أمام ما ينتظر الرجل من تصرف العوام الخائضين في علم الكلام , و على رأسهم فقهاء جدد , هم فقهاء القانون اللذين تقدمت ثلة منهم  للقضاء التونسي  من أجل محاكمة محمد الطالبي على ما بدا من تصريحاته الماسة بقناعات الإجماع و الجموع , علاوة على تهديد الرجل صراحة على المنابر الإفتراضية التي تطالب بالقصاص منه و إهدار دمه , خاصة و أن تقاليد إغتيال العقل في ثقافتنا المعاصرة باتت زادا مشرفا للثقافة العربية الإسلامية بين ثقافات العالم المعاصر, و ضحاياها كما هو معروف سلسلة طويلة من الإغتيالات و القتل و التضييق و المحاكمات و التشهير و الحرق و المنع و التكفير و إنزال الفتوى من لدن الحقد الكبدي تجاه التفكير و التأويل و الإجتهاد و  » أوجاع الدماغ  » . و قد ينفلت أحد الصبيان – لا قدر الله – في هذا الجو المشحون بالتجييش و الشيطنة فيؤذي الطالبي كما حدث في مصر مع نجيب محفوظ .

و غياب المثقف و صمته في مثل هذه المحنة التي يتعرض لها المثقف معبرة على أزمة ما , أزمة يساهم فيها المثقف التونسي بشكل جلي , و هو ما سيسوّغ للجموع و من يقف ورائهم من فقهاء إلى مزيدا من التطاول على المفكرين و المبدعين في البلد , و يِؤكدون بشكل غير مباشر في تأبيد صورة المثقف المستقيل بإرادته و المتواري وراء أحجبة النخبوية الناعمة , و الإنتماء البرجوازي الصغير , و الكائن المقيم في الرفاهية و الفضاءات المكيفة , و المكتفي بذاته و نعمه و ملذاته الصغيرة و الاحتفاء بنرجسيته المخملية . و هو ما يؤكد مرة أخرى أن المثقف التونسي لا وجود له إلا على ألسنة العوام بوصفه  » ثقافوتا  » ( على وزن بهموت و جهلوت …) منقرضا و كائنا رابعا لا وجود له كالعنقاء و الغول و الخل الودود .

(4)

و في هذا الإطار الذي أنشغل فيه الناس بهرج الفتنة التي أردها البعض  » فتنة خالصة  »  بسبب إحتياجهم لها كذريعة للإبتزاز السياسي على خلفية الصخب الذي تمر به البلاد بعد الثورة و و رغبة أطراف سياسية في استغلال هذه الوضعية لصالح حملاتهم التعبوية و كسب الأنصار ضمن ما تتيحه مسرحة الشأن العام من إمكانية للتألق الأدائي بدءا من ترويج الشيطنة و وصولا إلى إقامة محاكم التفتيش باسم إقامة الحد … قلت في هذا الإطار بالذات لم يتم الإستماع الفعلي لضمير مفكر كمحمد الطالبي , بل لم تتم قراءة نصوصه و أفكاره و أطاريحه بالشكل الذي ينصف الرّجل الذي لم يدخر ذرة جهد في التفكير المعرفي و النظر العقلي و المناوءة السياسية و الفكرية للطغيان قبل الثورة … و لا غرابة أن المقولة الشهيرة  » هذا الحساب قبل أن أقرأ الكتاب  » ستسود كعملة في حياتنا الفكرية يتم من خلالها تصريف الظلم و الإظلام  في سوق تجار الحقيقة من الفقهاء بكل أنواعهم اللذين ذكرناهم .

(5)

قد يحدث أن يحاكم الطالبي أمام القضاء التونسي – و لا أدري بأية تهمة ؟ – في الزمن الذي يحتل فيه الفقيه القانوني المشهد كله . و إن وقعت هذه المحاكمة ستكون أوّل محاكمة في تاريخ تونس على الأفكار , و ستكون للبعض انتقاما من العقل و الرأي المخالف  , لكنها ستظل محاكمة إستثنائية حين سيتكلم فيها العقل الطالبي أمام العقول الطالبانية … ستكون محاكمة مفصلية في تاريخ تونس المعاصر قد تمكّن ربما البروفيسور محمد الطالبي بوصفه مفكرا و مثقفا و مجتهدا في التفكير و التأويل , و بوصفه أيضا أحد بناة الجامعة التونسية من القيام بالدرس الإفتتاحي

( Cours inaugurale )

لموات العقل في تونس ما بعد الثورة .

درس الطالبي الإفتتاحي في المحكمة ستكون ديباجتها ما قاله نظيف الرومي و ثبته التوحيدي في المقابسات :  » أما العقل فإنه يقضي بانتظامه و ثباته , و اتصاله و التئامه , و ذلك لأن العقل حاكم عفيف , و قاض عدل, و صديق مشفق , و والد حدب , و جار محسن , و شريك ناصح , وهاد صدوق , و صاحب مؤنس , و خطيب محقق , و مناد مبلغ , و مناج مفهم , و محدث مطرب , و جليس فكه , و نور شائع , و ضياء ساطع , و قول فصل , و ركن وثيق , و جوهر شريف , و طود منيف , و نقطة متصلة , و ذات مقدسة , و خير محض , و جود بحت , من ذا يقدر على مدحه و تقريضه و نشر خصائصه , و تحصيل فضائله , له الوجود الحق من الموجود الحق , له الحكم الفصل من الحكيم العدل . » … أما نهاية هذا الدرس فستكون خاتمتها ما قاله بيك الميراندولي

Pic de la Mirandole

:  » قرأت في كتب العرب بأنه لا يمكننا أن نرى شيئا أجمل و لا أروع من الإنسان  » .

ما أقبحنا … في ثورة ضد الجمال .

Répondre