البورقيبية ليست الانتماء السياسي لفكر بورقيبة بل مواصلة لنمط إنتاجه

with Aucun commentaire
ألاحظ بداية أن الحركة الوطنية التونسية في تمظهراتها التاريخية الممتدة من مرحلة التحرير الوطني إلى التحول القيمي الممكن الذي تعرفه منذ ثورة ١٤ جانفي ٢٠١١ مرورا بفترة بناء الدولة الحديثة و بالإنتكاسة التي عرفتها ابتداء من السبعينات ما زالت إلى حد اليوم تفتقر حسب رأيي لقراءة داخلية تنأى عن التأويل الايديولوجي التنظيري المسقط و الذي يتنزل في سياقات عديدة تختلف باختلاف مشارب فكرية تساهم كلها في تعتيم الرؤية و تمنعها من الولوج إلى صلب الواقع اللامرئي الذي لا يقدر على اختراقه إلا المثقفون المبدعون وذلك بتمكنهم من تحويل رؤيتهم إلى رؤيا. أقول هذا اعتبارا أن ما تعرفه ثورتنا اليوم من تحويل لوجهتهاالثقافية المبشرة بما بعد الحداثة إلى انتفاضة ركبها الانتهازيون المجذوبون بالفراغ الذي أحدثه سقوط النظام السابق يؤكد أن ما تعرفه الساحة السياسيه اليوم من عجز واضح على تجاوز الرؤى المستلبة يمثل تواصلا لنفس التصورات التي أجهضت المشروع الطوبوي البورقيبي و حولته إلى مسار حداثي اشتراكي ثم ليبرالي لينتهي في شكل نظام لا يرقى حتى إلى مستوى الأنظمة الدكتاتورية بحق كما أشار إلى ذلك قبلي صديقي توفيق الجبالي المثقف المبدع المسرحي المعروف.

و الدليل على أن الإرتداد الذي تعرفه ثورة ١٤ جانفي يمثل امتدادا لما تعاني منه الدولة التونسية الحديثة منذ الاستقلال من عدم قدرة النخبة المثقفة في أغلبيتها على رؤية خصوصية الواقع التونسي و يجعل المنتمين لهذه النخبة تختزله في تصورات خارجة عن سياقه، وهي مرجعية الجهات العميلة المتمكنة من السلطة بعد انتخاب المجلس التأسيسي.
فالمرزوقي مهوس بالانتقام لوالده و لنفسه من بورقيبة الذي بانتصاره السياسي على المنتصرين لبن يوسف أجبر أباه على الهجرة إلى وجده بالمغرب متسببا بطريقة غير مباشره في حرمان الإبن من عطف أبيه بعد أن أبعده هذاالأخير إلى طنجه إثر زيجته بمغربية. و لست من الذين لا يحترمون الحياة الخاصة للغير و لكن تواجد المرزوقي حيث هو اليوم يجعل منه شخصية عمومية أفعالها تلزمنا جميعا و على هذا الأساس من واجبنا فهمها حتى نكون على دراية بما قد يدخل في قرارات رئيسنا و تصوراته من تأثيرات لحياته الشخصية. وأريد أن أذكر هنا بما قام به بورقيبة من « بوح » في محاضراته بمعهد باش حانبه للصحافة ببعض الجزئيات من حياته ذات الصبغة الحميمية، معتبرا ذلك من واجب الشفافية التي يجب أن يكون عليها الشخص الذي يتحمل مسؤلية تمثيل شعب بأكمله. و كان رحمه الله نبه إلى أن محاضراته تمثل شهادة و لا يجب اعتبارها تأويلا أحاديا لتاريخ تونس الذي يكتبه المؤرخون و ليس رجال السياسة. و لذلك اختار ان يلقي محاضراته على منبر معهد الصحافة و ليس من كرسي تدريس التاريخ بكلية الآداب و العلوم الإنسانية. و خلافا لما يرتئيه معارضوه فإن النرجسية المفرطة لم تكن الدافع لذكره لما كان يساوره من شكوك حول نسبة إبنه الوحيد إليه نظرا لكونه  » وحيد الخصية » وللظروف التي حفت بوقوعه في حب وسيلة بن عمار واصفا حالته النفسية لما كان يمر بنهج الواد و نهج عبد الوهاب بالمدينة العتيقة « عساه يراها أو يرى من يراها« . هذا إلى جانب إقدامه على التعرض بالتفصيل إلى الطريقة التي وقعت بها تصفية الزعيم صالح بن يوسف دون ذكر لأسرار الدولة المتمثلة في أن قرار التصفية كان نتيجة اتفاق بين ثلاثة أطراف أولها ممثل جبهة التحرير الجزائرية بالقاهره و ثانيها الرئيس جمال عبد الناصر و ثالثها الدولة التونسية.
كما أنه تجدر الملاحظة إلى أن ما يحرك الغنوشي منذ ما يفوق النصف قرن و من قبل أن ينخرط في المنظمة الإخوانية العالمية ليس إلا تصفية حساب مع ما مثله التوجه الفكري و السياسي المغاربي والذي اختزله بورقيبة في نظرته السياسية الجهادية المنبع و النهضوية الغاية من تجاوز تنويري لأزمة التحديث التي يمر بها الفكر الإسلامي منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. و ليس غريبا أن نجد راشد الغنوشي و من وراءه مراكز الضغط العالمية النصف المعلنة تنتحل الصفات التي تميز بها إسلام بورقيبة ذي التوجه الصوفي الجهادي الذي أسس له الأمير عبد القادر الجزائري من قبله وكذلك ما يمكن أن يستشف من مواقف الزعيم المغربي الريفي عبد الكريم الخطابي. فصفة التحرير أفرغت من محتواها التنويري الذي يلتقي موضوعيا و الفكر التنويري الغربي الذي ينعت تعمدا بالعلمانية و ما هو كذلك وشحنت بمدلول سياسي أساسه العنف الثوري و تسخير البشر لخدمة غايات تسلطية غير معلنه لما تتسم به من صفات لاأخلاقية كما أن مفهوم النهضة الذي عبر من خلاله المثقفون العرب بالخصوص عن مشروع التوفيق بين الفكر التنويري الغربي و ضرورة إعادة العمل بالفكر الإسلامي الأصولي الذي كان يتميز منتجوه بحرية التأويل وبالأنتاج الفعلي للتاريخ دون تقوقع على الذات خوفا من ملاقاة الآخر المغاير بالضرورة.
و حتى أكون أكثر تدقيقا لتأويلي هذا لما نعيشه اليوم بتونس أشير كذلك إلى موقف النخبة المستغرِبة و التي يمنعها استيلابها الايديولوجي عن إمكانية التجاوز بالقدرة على التوفيق الابداعي و ليس التلفيقي بين فلسفة الأنوار الغربية و » إسلام التحرير بالتنوير » واستعمالي لحرف الباء عوضا عن حرف الواو يجعل هذا الوصف للإسلام أقرب لما أسميه بإسلام كل من بورقيبة و الآمير عبد القادر مما يشار إليه تحت عنوان « إسلام التحرير و التنوير » وهي تسمية مرجعها الفكر السني التونسي و بخاصة ما كتبه محمد الطاهر بن عاشور لأن عملية التحرير هي في الواقع نتيجة لتنوير العقول و ليست محاذية لها، كما قد يوحي به عنوان كتاب التفسير الذي وضعه الشيخ الزيتوني المستنير.
و الاستيلاب يعاني منه أغلب المحسوبين على الفكر « التقدمي » و الذين ينتمون للفرنكوفيين و مستعملي العربية على حد السواء. لأن التغريب الذي يصيب العرب الذين يتعاملون مع الفكر الغربي بعد » تعريبه » كثيرا ما يكون أشد استيلابا مما قد يصيب مستعملي اللغتين الذين قد يسمح لهم التموقع المثنى من اعتبار البعد الضروري للموقف النقدي الذي يمليه العقل. فترجمة فكر الأخر تختلف عن تعريبه لأن لفظ تعريب له شحنة ايديولوجية تحرم القائم به من تعاطي الترجمة دون خلفيات هوياتية نضالية. فبيت الحكمة في عصر المأمون عمروه مترجمون جلهم غير عرب فترجمة التراث العالمي للغة العربية لا ينبغي أن تكون الغاية منها تعريب هذا التراث و الاستدلال على أن « لغتنا » العربية قادرة على احتواء الانتاج الحضاري الذي يبدعه الآخر. لأن الغاية من الترجمة فتح الآفاق و الغاية من التعريب أساسها منطق التحدي المسكون بالانطواء على الذات و بالهزيمة الحتمية.
و من خلال هذا التحليل يمكننا أن نفهم الأسباب الفكرية العميقة التي جعلت الفكر البورقيبي يعارضه كل من  » المحافظين السنيين » و ليسوا كلهم مستنيرين مثل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور و التقدميين الذين يعتقدون خطأ وأن العقل النوراني الذي تتجذر فيه فلسفة الأنوار و الماركسية ألأصلية من قبل أدلجتها من طرف الماركسيين لا علاقة لهما بالفكر الديني في مفهومه الصوفي الذي أدخله سبينوزا لدائرة الفكر الغربي انطلاقا من التصوف العبري العربي الذي عرفه هذا الفيلسوف الهولندي ذو الأصل البرتغالي في فترة شبابه التي قضاها بشبه الجزيرة الايبرية ايام كان العرب المسلمون ينتجون حضارة الأندلس التعددية المنابع و الآفاق.
و معارضة الفكر البورقيبي لم يقم بها معارضوه السياسيون من المنتمين لتيارات المعارضة بل قام بها كذلك معارضوه من الدستوريين المستغربين من الذين شركهم في الحكم فاصلا بين « شخصه كمفكر طوباوي صرح بأنه سيفهم بعد أربعين سنة أو أ كثر و بين صفته كرئيس دولة يسوس البلاد بحكمها عن طريق تفعيل كفاءتها المختلفة و المتاحة، تاركا للبعض منهم حرية أدلجة  » الفكر الحزبي الدستوري » الذي ينسب إليه تعسفا و تحويله إلى اشتراكية دولة ثم الى وسطية جامدة  و ليبرالية اقتصادية٫ دون الإقدام الضروري على مواصلة تحرير العقول وإذكاء الفكر النقدي بين شرائح الشباب و هو ما تسبب في الخندقة الايديولوجية للجامعة بين يمين و يسار اكتفت الوسطية الجامدة للحزب الحاكم بتشجيع الطرفين على التناحر و متخلية عن دورها التوفيقي الصعب ذي الصبغة الطوباوية المساعد على التجاوز الضروري. هذا التجاوز الذي لا يمكن لأي مشروع مجتمعي ثوري أن يكتب له النجاح دون العمل على ضمانه بالتوافق البناء بين كل القوى المنتجة المعيدة لإنتاج المجتمع والأقلية المبدعة التي تسمح بفتح الآفاق الجديدة دون القفز على الواقع.
وانطلاقا من قراءتي هذه لتاريخ تونس الحديث و ما يخترقه من تجاذبات متناقضة بين الفكر لإصلاحي الذي استوعبه بورقيبه مضيفا له ما كان يتميز به من قدرة على التبصر الاستراتيجي فيما يتضمنه الواقع من إمكانية التجاوز المتاحة خدمة لمشروع التحرير الوطني ثم بناء الدولة الحديثة من ناحية و ما كان و ما زالت تعاني منه النخب السياسية الحاكمة و المعارضة على حد السواء، من ناحية أخرى، ما زلت مصرا على ما قلته منذ الأيام الأولى من الثورة بأن الثورة التونسية ستكون بورقيبية أو لن تكون.
و أعود الآن إلى ذكر البعد الرمزي الذي أضفته الثورة على انتحار البوعزيزي فحولته إلى استشهاد على معبدالكرامة من حيث لم يكن يدري. و المقصود هنا ليس بالضرورة الشاب محمد البوعزيزي الذي قد نختلف في تأويل إقدامه المتعمد أو الغير المتعمد على إحراق نفسه بإضرام النار في جسده بعد أن سكب عليه كمية من البنزين بل ما أضفت عليه الأحداث التاريخية التي تبعته من بعد رمزي جعل منه الشرارة التي أشعلت نار الثورة. و هنا يمكننا أن نلاحظ الصيغة الحداثية التي اتخذها هذا الترميز من حيث تحويل الحدث الفعلي للإحتراق إلى صورة رقمية قابلة للنشر على نطاق واسع على شبكات التواصل الإجتماعي و ما تسبب فيه هذا الواقع الإفتراضي من مساهمة في تفعيل التاريخ اللامرئي الذي تخمرت فيه الظروف المواتية للثورة فجعلها تبرز من دائرة الموجود بالقوة إلى مستوى الممكن إيجاده بالفعل فتلقفها الشباب العاطل المهمش بالجهات و بالأحزمة الحمراء و السوداء للمدن الكبرى و شباب الفايسبوك وأطرتها المنظمات المدنية ذات الصبغة السياسية من اتحاد العمال والشريحة النيرة من سلك المحامين إضافة إلى التحركات المختلفة التي صدرت عن أصحاب القرار داخل النظام نفسه. و قد تكون لهذه التحركات المسكوت عنها بالضرورة الأثر الكبير في السماح لثورتنا بأن تتخذ الشكل السلمي الثقافي الإحتفالي لمظاهرة ١٤ جانفي ٢٠١١ بشارع بورقيبة معتمة شيئا ما على البعد الدرامي للأحداث التي عرفتها البلاد ابتداء من ١٧ ديسمبر ٢٠١٠. و إن اتخذت صورة الثورة التونسية شكلا  » ما بعد حداثيا » فإن ذلك يرجع إلى ما تختزنه تونس من مواصفات اجتماعية و ثقافية تحمل في طياتها التأثيرات الإيجابية المباشرة للفترة البورقيبية الأولى و التي لم يتمكن الانشغال بالصراع على السلطة في الفترة البورقيبية المتأخرة و التجهيل المنظم الذي طبع فترة بن علي من القضاء عليها.
ولكن كما كانت للتحركات المختلفة لأصحاب النفوذ داخل النظام تأثير إيجابي في التحديد النسبي للأبعاد المأسوية للثورة فإن الإرباك الذي نال سلطة القرار إثر شغور مركزهاالرئيسي بخروج بن علي منه تسبب أيضا في تمكن ما سماه الباجي قايد السبسي بالأعشاب الطفيلية من الإلتفاف على الثورة بركوبها و أدى إلى تغيير وجهتها خدمة لمصالح القوى العظمى ولعملائها بالداخل وحلفائهم من بلدان الخليج الذين ابتغوا درء مفعول الثورة التونسية على أنظمتهم الدكتاتورية المتخفية تحت ستار الرخاء الإقتصادي الذي من به الله على أنظمتها؛ إلى جانب استغلال الفرصة من طرف هذه الأنظمة الرجعية لتصفية حساباتها مع تركة بورقيبة
و ما لا يعلمه إلا القليل من الملاحظين و لم ينتبه له إلا من واكب الأحداث عن قرب غداة انقلاب السابع من نوفمبر هو أن النظام السعودي و بلدان الخليج بصفة عامة حاولت استغلال فرصة صعود بن علي إلى السلطة للمس من مكتسبات تونس البورقيبية. و لقد حضرت شخصيا، يوم الأحد ٨ نوفمبر١٩٨٧ إلى جانب الوزير الأول ، الندوة الصحفية التي وقع تنظيمها بالدار المغربية بقرطاج بحضور مراسلي وسائل الإعلام العالمية و استمعت للسيد الهادي البكوش يرد على سؤال وجهه له مراسل وكالة الأنباء الكويتية. وفحوى السؤال تمثل في ابتغاء التعرف عما تنوي السلطة الجديدة فعله بمجلة الأحوال الشخصية و كان رد الوزير الأول، خلافا لما عرف به السفير السابق بالجزائر من حذق للخطاب الدبلوماسي، مشحونا بشيء من التحدي و كان كالآتي : « نحن عادة في تونس نتحاشى تصدير أفكارنا السياسية و لكن فيما يخص مجلة الأحوال الشخصية نحن نرى أنه يحق لنا تصديرها ». ومن المعروف أنه إثر الزيارة التي قام بها بن علي إلى السعودية وقع التفكير في إعداد زيارة يقوم بها الملك السعودي إلى تونس. و يبدو أنها لم تتم لأن خادم الحرمين الشريفين اشترط لتلبية الدعوة أن « تبشره » السلطة الجديدة و تكرمه بقرار التخلي عن مجلة الأحوال الشخصية و هو ما رفضه أصحاب القرار الجدد آنذاك.
والغاية من تذكيري بهذه الحيثيات هو وضع ما نشاهده اليوم من محاولات عنيدة و مراوغة تقوم بها السعودية و قطر، كل لحسابه الخاص، تتمثل في الضغط على عملائهم المتمكنين بالسلطة اليوم لكي يتخلوا عن مكاسب تونس البورقيبية و أهمها مجلة الأحوال الشخصية. وهو ما يفسر تمسك حكومة النهضة الانتقالية بالتنكر الكامل لبورقيبه على مستوى صياغة الدستور الجديد حتى لا يتخلى عنهم نهائيا حماتهم من أنظمة الخليج المتخلفة. و ما يمكن ملاحظته من ارتباك في صفوفهم و من تهديد معلن لنسف السلم المدنية بالبلاد بالعودة إلى ممارسة العنف السلفي يدل على شعور النهضة بأن مسانديهم الخليجيين بدأوا ايشكون في قدرتهم الفعلية على تلبية مطالبهم في التخلي عن مجلة الأحوال الشخصية.

Répondre